فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومجاهد بمعنى التبيين وهو على ما قيل: إما بطريق المجاز أو التضمين أو لتنزيله منزلة اللازم كأنه قيل: أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم {أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ} أي بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم، وإذا ضمن اصبنا معنى أهلكنا لا يحتاج إلى تقدير مضاف.
وأن مخففة من الثقيلة وسمها ضمير شأن مقدر وخبره الجملة الشرطية والمصدر المؤول فاعل {يَهْدِ} ومفعوله على احتمال التضمين محذوف أي أو لم يتبين لهم مآل أمرهم أو نحو ذلك.
وجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى وأن يكون ضميرًا عائدًا على ما يفهم مما قبل، أي أو لم يهد لهم ما جرى على الأمم السابقة.
وقرأ عبد الرحمن السلمي.
وقتادة، وروي عن مجاهد.
ويعقوب {نهد} بالنون فالمصدر حينئذ مفعول، ومن الناس من خص اعتبار التضمين أو المجاز بهذه القراءة واعتبار التنزيل منزلة اللازم بقراءة الياء، وفيه بحث، وقوله تعالى: {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} جملة معترضة تذييلية أي ونحن من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلب من لم نرد منه الأيمان حتى لا يتعظ بأحوال من قبله ولا يلتفت إلى الأدلة، ومن أراد من أهل القرى فيما تقدم أهل مكة جعله تأكيدًا لما نعى عليهم من الغرة والأمن والخسران أي ونحن نطبع على قلوبهم فلذلك اقتفوا آثار من قبلهم ولم يعتبروا بالآيات وأمنوا من البيات لمستخلفيهم حذو النعل بالنعل.
وجوز عطفه على مقدر دل عليه قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَهْدِ} وعطفه عليه أيضًا وهو وإن كان إنشاء إلا أن المقصود منه الأخبار بغفلتهم وعدم اهتدائهم أي لا يهتدون أو يغفلون عن الهداية أو عن التأمل والتفكر ونطبع الخ.
وجوز أن يكون عطفا على يرثون، واعترض بأنه صلة والمعطوف على الصلة صلة ففيه الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو {أَن لَّوْ نَشَاء} سواء كانت فاعلًا أو مفعولًا، ونقل أبو حيان عن الأنباري أنه قال: يجوز أن يكون معطوفًا على {أصبنا} إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كما في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مّن ذلك} [الفرقان: 10] أي إن يشأ، يدل عليه {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا} [الفرقان: 10] فجعل لو شرطية بمعنى إن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره وجعل أصبنا بمعنى نصيب، وقد يرتكب التأويل في جانب المعطوف فيؤول {نَطْبَعُ} بطبعنا، ورد الزمخشري هذا العطف بأنه لا يساعد عليه المعنى لأن القوم كانوا مطبوعًا على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وذلك يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها، وتعقبه ابن المنير بأنه لا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولابد وهم وإن كانوا كفارًا ومقترفين للذنوب فليس الطبع من لوازم الاقتراف البتة إذ هو التمادي على الكفر والإصرار والغلو في التصميم حتى يكون الموصوف به مأيوسًا من قبوله للحق ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المثابة بلى إن الكافر يهدد لتماديه على الكفر بأن يطبع الله تعالى على قلبه فلا يؤمن أبدا وهو مقتضى العطف على {أصبنا} فتكون الآية قد هددتهم بأمرين الإصابة بذنوبهم والطبع على قلوبهم والثاني أشد من الأول وهو أيضًا نوع من الإصابة بالذنوب والعقوبة عليها ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب، وكثيرًا ما يعاقب الله تعالى على الذنب بالإيقاع في ذنب أكبر منه، وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه كما قال سبحانه: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] كما زادت المؤمنين إيمانًا إلى إيمانهم وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببًا فيه وجزاء عليه فثواب الإيمان إيمان وثواب الكفر كفر، وإنما الزمخشري يحاذر من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى وذلك عنده محال لأنه بزعمه فبيح والله سبحانه عنه متعال، وفي التقريب نحو ذلك فإنه نظر فيما ذكره الزمخشري بأن المذكور كونهم مذنبين دون الطبع وأيضًا جاز أن يراد لو شئنا زدنا في طبعهم أو لأمناه، والحق كما قال غير واحد من المحققين أن منعه من هذا العطف ليس بناء على أنه لا يوافق رأيه فقط بل لأن النظم لا يقتضيه فإن قوله سبحانه: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي سماع تفهم واعتبار يدل على أنهم مطبوع على قلوبهم لأن المراد استمرار هذه الحال لا أنه داخل في حكم المشيئة لأن عدم السماع كان حاصلًا ولو كان كذلك لوجب أن يكون منفيًا، وأيضًا التحقيق لا يناسب الغرض، و{كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} [الأعراف: 101] ظاهر الدلالة على أن الوارثين والموروثين كل من أهل الطبع وكذا قوله سبحانه: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} [الأعراف: 101] يدل على أن حالهم منافية للإيمان وأنه لا يجىء منه البتة وأيضًا إدامة الطبع أو زيادته لا يصلح عقوبة للكافرين بل قد يكون عقوبة ذنب المؤمن كما ورد في الصحيح وما يورد من الدغدغة على هذا مما لا يلتفت إليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}.
عطفت على جملة: {أفأمن أهل القرى} [الأعراف: 97] لاشتراك مضمون الجملتين في الاستفهام التعجيبي، فانتقُل عن التعجيب من حال الذين مضوا إلى التعجيب من حال الأمة الحاضرة، وهي الأمة العربية الذين ورثوا ديار الأمم الماضية فسكنوها: مثل أهل نَجْران، وأهل اليمن، ومن سكنوا ديار ثمود مثل بَليِّ، وكعب، والضجاغم، وبهراء، ومن سكنوا ديار مَدْين مثل جُهَيْنة، وجَرْم، وكذلك من صاروا قبائل عظيمة فنالوا السيادة على القبائل: مثل قُريش، وطَي، وتَميم، وهُذَيْل.
فالموصول بمنزلة لام التعريف العهدي، وقد يقصد بالذين يرثون الأرض كل أمة خلفت أمة قبلها، فيشمل عادًا وثمودًا، فقد قال لكلَ نبيّهم {واذكروا إذ جلعكم خلفاء} [الأعراف: 74] إلخ ولكن المشركين من العرب يومئذٍ مقصودون في هذا ابتداء.
فالموصول بمنزلة لام الجنس.
والاستفهام في قوله: {أولم يهد} مستعمل في التعجيب.
مثل الذي في قوله: {أفأمن أهلُ القرى} [الأعراف: 97] تعجيبًا من شدة ضلالتهم إذ عدموا الاهتداء والاتعاظ بحال من قبلهم من الأمم، ونسوا أن الله قادر على استئصالهم إذا شاءه.
والتعريف في الأرض تعريف الجنس، أي يرثون أي أرض كانت منازل لقوم قبلهم، وهذا إطلاق شائع في كلام العرب، يقولون هذه أرض طَيء، وفي حديث الجنازة «من أهل الأرض» أي من السكان القاطنين بأرضهم لا من المسلمين الفاتحين فالأرض بهذا المعنى اسم جنس صادق على شائع متعدد، فتعريفه تعريف الجنس، وبهذا الإطلاق جُمعت على أرضين، فالمعنى: أو لم يهد للذين يرثون أرضًا من بعد أهلها.
والإرث: مصير مال الميت إلى من هو أولى به، ويطلق مجازًا على مماثلة الحي مَيتًا في صفات كانت له، من عزّأ وسيادة، كما فسر به قوله تعالى حكاية عن زكرياء: {فهب لي من لدنك وليًا يرثني} [مريم: 5، 6] أي يخلفني في النبوءة، وقد يطلق على القَدْر المشترك بين المعنيين، وهو مطلقُ خلافةِ المُنْقَرَضضِ.
وهو هنا محتمل للإطلاقين، لأنه إن أريد بالكلام أهل مكة فالإرث بمعناه المجازي، وإن أريد أهل مكة والقبائل التي سكنت بلاد الأمم الماضية فهو مستعمل في القدر المشترك، وهو كقوله تعالى: {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] وأيًّا ما كان فقيْدُ {من بعد أهلها} تأكيدٌ لمعنى {يرثون}، يراد منه تذكير السامعين بما كان فيه أهل الأرض الموروثة من بحبوحة العيش، ثم ما صاروا إليه من الهلاك الشامل العاجل، تصويرًا للموعظة بأعظم صورة فهو كقوله تعالى: {ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} [الأعراف: 129].
ومعنى {لم يهد} لم يرشد ويُبَيْن لهم، فالهداية أصلها تبيين الطريق للسائر، واشتهر استعمالهم في مطلق الإرشاد: مجازًا أو استعارة كقوله تعالى: {اهْدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6].
وتقدم أن فعلها يتعدى إلى مفعولين، وأنه يتعدى إلى الأول منهما بنفسه وإلى الثاني تارة بنفسه وأخرى بالحرف: اللام أو إلى، فلذلك كانت تعديته إلى المفعول الأول باللام في هذه الآية إمّا لتضمينه معنى يُبين، وإما لتقوية تعلق معنى الفعل بالمفعول كما في قولهم: شكرتُ له، وقوله تعالى: {فَهَبْ لي من لدنك وليًا} [مريم: 5]، ومثل قوله تعالى: {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} في سورة طه (128).
و{أنْ} مخففة من أن واسمها ضمير الشأن، وجملة {لو نشاء} خبرها.
ولما كانت أن المفتوحة الهمزة من الحروف التي تفيد المصدرية على التحقيق لأنها مركّبة من أن المكسورة المشددة، ومن أن المفتوحة المخففة المصدرية لذلك عُدّت في الموصولات الحرفية وكان ما بعدها مؤولًا بمصدر منسبك من لفظ خبرها إن كان مفردًا مشتقًا، أو من الكَون إن كان خبرها جملة، فموقع {أن لو نشاء أصبناهم} موقعُ فاعل {يهد}، والمعنى: أو لم يبيّنْ للذين يخلْفون في الأرض بعد أهلها كونُ الشأن المهم وهو لو نشاءُ أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم.
وهؤلاء هم الذين أشركوا بالله وكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
والإصابة: نوال الشيء المطلوب بتمكّن فيه.
فالمعنى: أن نأخذهم أخذًا لا يفلتون منه.
والباء في {بذنوبهم} للسببية، وليست لتعدية فعل {أصبناهم}.
وجملة: {أنْ لو نشاء أصبناهم بذنوبهم} واقعة موقع مفرد، هو فاعل {يَهْدِ}، ف {إنْ} مخففة من الثقيلة وهي من حروف التأكيد والمصدرية واسمها في حالةِ التخفيف، ضمير شأن مقدر، وجملة شرط {لو} وجوابه خبر {أنّ}.
و{لو} حرف شرط يفيد تعليق امتناع حصول جوابه لأجل امتناع حصول شرطه: في الماضي، أو في المستقبل، وإذ قد كان فعل الشرط هنا مضارعًا كان في معنى الماضي، إذ لا يجوز اختلاف زمني فعلي الشرط والجواب، وإنما يخالف بينهما في الصورة لمجرد التفنن كراهية تكرير الصورة الواحدة، فتقدير قوله: {لَوْ نشاء أصبناهُم} انْتفى أخذُنَا إياهم في الماضي بذنوب تكذيبهم، لأجل انتفاء مشيئتنا ذلك لحكمة إمهالهم لا لكونهم أعزّ من الأمم البائدة أو أفضل حالًا منهم، كما قال تعالى: {فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارًا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم} [غافر: 21] الآية، وفي هذا تهديد بأن الله قد يصيبهم بذنوبهم في المستقبل، إذ لا يصده عن ذلك غالبٌ، والمعنى: أغرهم تأخّر العذاب مع تكذيبهم فحسبوا أنفسهم في منعة منه، ولم يهتدوا إلى أن انتفاء نزوله بهم معلق على انتفاء مشيئتنا وقوعَه لحكمة، فما بينهم وبين العذاب إلاّ أن نشاء أخذهم، والمصدر الذي تفيده أن المخففة، إذا كان اسمها ضمير شأن، يقدر ثُبوتًا متصيّدًا مما في أن وخبرها من النسبة المؤكدة، وهو فاعل {يَهِد} فالتقدير في الآية: أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ثبوتُ هذا الخبر المُهم وهو {لو نشاء أصبناهم بذنوبهم}.
والمعنى: اعْجَبوا كيف لم يهتدوا إلى أن تأخير العذاب عنهم هو بمحض مشيئتنا وأنه يحق عليهم عندما نشاؤه.
وجملة: {ونطبع على قلوبهم} ليست معطوفة على جملة: {أصبناهم} حتى تكون في حكم جواب لو لأن هذا يفسد المعنى، فإن هؤلا الذين ورثوا الأرض من بعد أهلها قد طُبع على قلوبهم فلذلك لم تُجْدِ فيهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم مُنذ بُعث إلى زمن نزول هذه السورة، فلو كان جوابًا ل لو لصار الطبع على قلوبهم ممتنعًا وهذا فاسد، فتعين: إما أن تكون جملة {ونطبع} معطوفة على جملة الاستفهام برُمَتها فلها حكمها من العطف على أخبار الأمم الماضية والحاضرة.
والتقدير: وطَبَعنا على قلوبهم، ولكنه صيغ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار هذا الطبع وازدياده آنا فآنا، وإمّا أن تجعل الواو للاستئناف والجملة مستأنفة، أي: ونحن نطبع على قلوبهم في المستقبل كما طبعنا عليها في الماضي، ويُعرف الطبع عليها في الماضي بأخبار أخرى كقوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم} [البقرة: 6] الآية، فتكون الجملة تذييلًا لتنهية القصة، ولكن موقع الواو في أول الجملة يرجح الوجه الأول، وكأن صاحب المفتاح يأبى اعتبار الاستئناف من معاني الواو.
وجملة: {فهم لا يسمعون} معطوفة بالفاء على {نطبع} متفرعًا عليه، والمراد بالسماع فهم مغزى المسموعات لا استكاك الآذان، بقرينة قوله: {ونطبع على قلوبهم}.
وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى: {بَلْ طبع الله عليها بكفرهم} في سورة النساء (155). اهـ.